في البدء كان اسمه دوموزي, الإله الراعي السومري المسكين, الذي اختارته إلهة الخصب أنانا زوجا لها مفضلة إياه على الإله المزارع إنكمدو.
أما أنانا تلك فتقوم بالتضحية بنفسها و النزول إلى عالم الأموات لمدة ثلاثة أيام, ثم تقوم ببعث نفسها من جديد مجددة دورة الخصب الزراعية و مؤكدة قوتها الإخصابية الذاتية. و لكن صعودها مجددا كان مشروطا بإرسال شخص آخر لينوب عنها في العالم الأسفل.
فتصعد مع عفاريت الأرض و تشير لهم بأخذ دوموزي الراعي. يحاول دوموزي الهرب ثلاث مرات بدون جدوى حيث أن العفاريت تحاصره آخر مرة في حظيرته و تقوم بقتله بطريقة تخلع الأفئدة:
و أنت يا عيني, تائهة في السهول فلتدمعي كعين أمي
و أنت يا عيني, تائهة في السهول فلتدمعي كعين أختي
بين الازاهير استلفى الراعي دوموزي
و بينما هو نائم بين الازاهير رأى حلما
فنهض من نومه مذعورا مما رأى
...
..
سأختبئ بين الأعشاب القصيرة
فلا تخبري أحدا بمكمني
سأختبئ بين الأعشاب الطويلة
فلا تخبري أحدا بمكمني
سأختبئ بين القنوات و الترع
فلا تخبري أحدا بمكمني
...
..
دخل الحظيرة العفريت الأول
و ضرب خدود دوموزي بمسمار طويل نفاذ
و تبعه إلى الحظيرة العفريت الثاني
فراح يضرب وجه دوموزي بعصى الراعي
...
..
و كسر الكوب. فدوموزي لم يعد بين الأحياء
و حظيرته قد راحت نهبا للرياح
تنتقل الأسطورة إلى بلاد بابل و يصبح دوموزي هو تموز و تعطى أنانا اسما أكاديا هو عشتار. أما عشتار هنا, فتقوم بالهبوط إلى عالم الأموات لتحرر حبيبها القتيل تموز, بعد أن كانت قد أرسلت به بنفسها في الأسطورة السومرية. فتنجح في ذلك و تصعد به إلى السماء لتستمر دورة الخصب و الحياة.
إن موت الإلهة الأم لا يقل أهمية عن انبعاثها من جديد, فكما أن المزروعات تحتاج الشتاء و المطر لتنمو, فهي كذلك تحتاج حرارة الصيف و وهجه لتنضج و تتجدد الأرض بالمزيد منها في العام القادم. و هذا بالضبط ما ترمز إليه الأسطورة. و لجميع هذه الأساطير أعياد و احتفالات صاخبة و هستيرية جدا, فهي بكاء و نوح على تموز القتيل يتبعها فرح و احتفالات يشاركون بها عشتار لعودة حبيبها. و كانت تتخلها الممارسات الجنسية للإيحاء للأرض بالخصب و التجديد.
في سوريا, تختلف الأدوار قليلا, فدوموزي او تموز ما عاد ضحية مغلوبا على أمرها, لقد أصبح بعل ابن داجون, إله المطر و السحاب, و أصبحت عشتار اسمها عناة. و هنا لا يتوقف الخصب على عناة فقط, بل هو اتحاد بين إله المطر بعل و إلهة الخصب و الحب عناة. و هذا ليس بالمستغرب حيث أن الزراعة السورية تعتمد على الامطار أكثر مما كانت تعتمد عليه زراعة حوض الرافدين التي تسقى من دجلة و الفرات. و من منا لم يسمه ببعل أو الأراضي البعلية الزراعية؟
في أسطورة بعل و عناة الاوغاريتية, يقوم بعل بالرضوج لموت, إله العالم الأسفل الجبار و النزول عند رغبته فيسلم نفسه له مضحيا بذاته و السبب هو نفس السبب الذي دفع أنانا من قبله بالتضحية بذاتها.
على إثر خبر موته, يحزن إيل إله السماء و كبير الإلهة السورية, و عندما تراه عناة يصرخ و ينوح, تعرف أن بعلها قد قضة نحبه, فتبحث عنه بكل أسى و تجد جثته في الحقول:
فرفعته على كتفها
و صعدت به أعالي جبل صفون
و هناك بكت عليه و قامت بدفنه
و لكن أساها يتفاقم و تتحدى موت و تطلب منه أن يعيد لها بعل و لكنه يرفض فتقرر مواجهته:
كقلب البقرة على عجلها,
و كقلب الشاة على حملها,
كذلك هو قلب عناة على بعل
لقد أمسكت بالإله موت,
بالسيف تقطعه,
و بالمذراة تذريه,
و بالنار تشويه,
و بالطاحون تطحنه
و في الحقول تدفنه
حتى لا تأكل لحمه الطيور
و لا تنهش جسمه الجوارح.
بعدها تعثر على بعل حيا يقتص من باقي أعدائه, فيلتقيان و يقومان بفعل الحب باستعار و اشتياق شديد... آلاف المرات... حسب ما قاله لنا النص, و لن ندخل في تفاصيل ذلك هنا :wink:
و لكن الحب لا يدوم, إذ بعد سبع سنوات يعود موت لمصارعة بعل. فأسطورة بعل ليست تراجيديا سنوية كما يحدث مع أنانا و عشتار, إنما هي سنين خصب تليها سنين قحط, كما هو مناخ سوريا تماما. و لربما كانت سنين الخصب هذه أكثر وضوحا في الماضي لدرجة أنه كان من الممكن حصرها بسبع سنين تليها سنين من الجفاف.
و قد كان يسبق اسم بعل بآدون أي السيد. و قد ناب آدون أو آدوني عن الاسم عند فينيقيي الجنوب في بيبلوس و قبرص. و أصبحت عناة هي عستارت او عشتاروت.
أما قصة آدوني فتختلف قليلا. فهو لا يموت على يد إله الموت, بل يفترسه خنزير بري أثناء تجواله في غابات لبنان للصيد, فيصبغ لون دمه الأحمر ورود شقاق النعمان إلى يومنا هذا! فاسم آخر لآدوني هو النعمان.
حمل الفينيقيون معهم إلههم المحبب آدوني إلى اليونان و هناك أصبح اسمه ادونيس و أغرم به اليونانيون و زوجوه من الإلهة الإغريقية أفروديت.
و تتحور القصة قليلا و هي طويلة و لكن في نهايتها يكتب لأدونيس أن يعيش حياته مقسمة إلى ثلاثة أقسام. فصلا مع برسيفوني إلهة العالم الأسفل. و فصلا مع أفروديت و فصلا مع ذاته. فكان يتكرر هبوطه إلى عالم الاموات كل ثمانية شهور لأربعة أشهر, إلى أن صرعه خنزير بري في إحدى الأيام.
و الغريب في الأمر ان الخنزير البري هو أحد تحولات الإلهة أفروديت, فكأنها هي التي قتلته و هي التي تحييه, تماما كما قتلت أنانا دوموزي و أنقذته لاحقا في أسطورة بابل.
معظم هذه الديانات كانت تمارس نوعا من العشاء السري حيث يؤتى الحيوان الذي هو رمز الإله القتيل فيقتل و يؤكل لحمه و يشرب دمه كفعل رمزي للاتحاد الحقيقي بالإله. و في غير هذه المناسبة فإن قتل هذا الحيوان و أكله يحرم تحريما باتا. كما هو شأن حيوان الخنزير المحرم أكله لدى السوريين من عباد أدونيس و كذلك المصريون لأدونيسهم عندما ارتحل لعندهم. و قد تبنى اليهود هذا التحريم اقتداءا بأسيادهم المصريين و جيرانهم السوريين دونما سبب واضح. و يبدو أن الإسلام أيضا قد استمر من بعدهم بهذا التحريم, بينما تخلت عنه المسيحية.
اقتباس